"البيوت".. من الكهوف إلى ناطحات السحاب
يوماً بعد يوم، وفي جميع أرجاء العالم الست، تطالعنا دائما وسائل الإعلام العالمية، بأكثر أخبار العقارات غرابة، فهذا أغلي منزل في العالم وصل سعره إلي حوالي مليار يورو، يقع بالقرب من مدينة نيس الفرنسية، وذلك أضخم منزل في العالم، مساحته 200 ألف متر مربع، ويتكون من 1788 غرفة و257 حماماً، ويقع في سلطنة بروناي، وهو أعلي منزل في العالم، يتكون من 27 طابقاً، تعود ملكيتها لرجل الأعمال الهندي "موكيش أمباني"، وتلك منازل أسفل الماء في مدينة دبي، ومنازل أخري تحت الأرض في سويسرا.
تلك كانت غيضًا من فيض ملأ وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، ما يعني أن ذلك الانسان، والذي كان يعيش يوماً ما داخل الكهوف، أو الشقوق الأرضية، أضحي يمارس رفاهيته وعلومه في تطوير مسكنه.
حركة التطوير تلك استغرقت منه مئات بل آلاف السنين، فخرج إلي النور أول منزل تم بناؤه في منطقة "الرها- أورفا" جنوب دولة تركيا، قبل نحو 9500 سنة قبل الميلاد، ويسمي "كوبيكلي تبه"، وبناه مجموعة من الصيادين، أي أن عملية التطوير بدأت منذ أكثر من 11 ألفاً و500 سنة مضت.
الحقيقة أن قائمة أقدم المنازل في العالم، ظلت طيلة ستة آلاف وستمائة عام لا تعتمد سوي علي الطمي، وبعض الجدران تم فيها مزج الصخور بالطوب اللبن، وضمت مبني "بارننز"، والذي تم بناؤه عام 4850 قبل الميلاد، ويقع شمال مدينة "فنستير" بالغرب الفرنسي، ومبني "تومولوس من بوغون" بفرنسا، وتم بناؤه عام 4700 قبل الميلاد، ومبني "تومولوس سانت ميشيل" في فرنسا 4500 قبل الميلاد، ومباني "جبل أكودي" بإيطاليا 4000 سنة قبل الميلاد، ومباني "زر من هور" باسكتلندا 3700 قبل الميلاد، ومبني "سيشين باجو"، بالعاصمة البيروفيه "ليما" 3500 قبل الميلاد، ومقبرة "مرور غافرينيس" بفرنسا 3500 قبل الميلاد، ومبني "وايلاند سميثي" بإنجلترا 3460 قبل الميلاد، وقبر "أونستان تشامبرد كايرن" باسكتلندا 3450 قبل الميلاد، وغيرها من المباني البسيطة.
شهد عام 2650 قبل الميلاد طفرة جديدة في عالم البناء بخروج هرم "زوسر" المدرج في مصر، ليشهد بداية عصر المباني الهندسية المعقدة، والفن الحجري الضخم، ثم هرمي "ميدوم" و"سنفرو" بمحافظتي بني سويف والجيزة المصريتين 2580 قبل الميلاد، ثم هرمي "خفرع" و"منقرع" بمحافظة الجيزة المصرية 2550 قبل الميلاد، ثم انتقل ذلك الفن الحجري بشكل أو بآخر إلي دول العالم، فخرج إلي النور قبر "دولمن دي فييرا" بإسبانيا 2000 قبل الميلاد، وقصر "مينوس" بجزيرة كريت اليونانية 1800 قبل الميلاد، ومقبرتي "نوراغي سانتو أنتين" و"سو نوراكسي دي باروميني" بإيطاليا 1600 قبل الميلاد.
في أحد ليالي شتاء عام 1850، هبت الأعاصير والرياح علي جزر "أوركني" في شمال اسكتلندا، كانت من القوة أن قامت بتعرية الأرض، فظهرت أطلال بيوت حجرية قديمة، دُفنت تحت الأرض لآلاف السنين، ورغم أن التاريخ لم يذكر اسكتلندا إلا من العهد الروماني، إلا أن تلك الأطلال الحجرية تؤكد أن تلك المنطقة كانت مسكونة خلال العصر الحجري الحديث، لتشكل لنا أول قرية حجرية متكاملة، وقد تبين أن تاريخ تلك الآثار يعود إلى ما بين 2200 و3200 سنة قبل الميلاد.
وقد اكتشف في جزيرة "سكارا براي" 8 منازل دائرية تحت الأرض، مبنية بالكامل من الحجر المرصوص، ولندرة وجود أشجار وأخشاب على تلك الجزيرة المعزولة في العصور القديمة، بنيت البيوت كلها من الحجر الرملي المسطح.
يتوسط المنزل مكان لإشعال النار، كما بني على الجدار المقابل لمدخل المنزل عدة أرفف من الحجارة أيضا، فكان أثاث البيت كله من الحجارة، تلك هي أول قطع أثاث يعثر عليها في أوروبا، ويعتقد أن أسقف البيوت كانت من الجلود لتحمي الناس من المناخ المتقلب.
كما رأينا مما سبق، فمنذ نشأة الإنسان وهو دائم البحث عما يأويه الحر والبرد والخطر, فسكن الكهوف والمغارات، وفي كل مرة يأوي فيها نفسه ويقيها مؤثرات العالم الخارجي, يتطلع إلى الأفضل, فيصير يبحث عن راحته النفسية والبدنية، بعد أن كان يبحث عن مأوى يأويه المخاطر، فبدأ يبتكر مواد البناء، مرة يستخدمها كمادة أولية كالحجر والطين, ومرة بمزج عدة مواد مع بعضها البعض، ومرة ثالثة من الخشب وجلد الحيوان، كل ذلك ليشيد مبنى يأوي إليه عند جنوح الظلام, هكذا هو الإنسان، ظل عبر مرور الزمن يطور مسكنه، إلى أن وجد ضالته, في بعض المهندسين الذين يعتبرون المعمرين في الأرض غايتهم الإبداع, ولا غيره, فأبدعوا في تصميم المنازل والمساكن بشتى أنواعها، وفي شقيه الأفقي والعمودي, الى أن أطلت علينا أحدث منازل العصر، من قصور وناطحات سحاب ومنازل تحت الماء، وربما مستقبلاً في الفضاء أيضاً.
مواد بناء المسكن
تغيرت أشكال البناء، وتعددت المواد المستخدمة في إنشاء المسكن عبر العصور، ومع التطور والتقدم العلمي والتكنولوجي، تم اختيار مواد البناء من المتوفر في البيئة ويلائمها، وبما يناسب ظروف استخدام المسكن وطبيعة القاطنين فيه، ففي العصور الحجرية علي سبيل المثال، سكن الإنسان الأول ضمن الصخور، وحسنها، بل قام بنحتها، كما أنه استخدم جذوع الأشجار وأغصانها وأوراقها في بناء مسكنه، فقد استثمر "الأسكيمو" علي سبيل المثال الثلج والفراء في بناء مساكنهم مستفيدين من توافره وعازليته، كما استثمر "البدو" الشعر والصوف والجلود، لإنشاء خيم سكناهم، القابلة للفك والتركيب، مع حاجتهم للترحال.
ومع بدء المدنية والاستقرار البشري، بدأ الإنسان يبني مساكنه بالحجر والطين، أو بالطوب "clay bricks" أو ما يسمي بالطوب "النيئ" أو "المشوي" أو من الخشب، والذي تم استخدامه في صناعة الأسقف، كجذوع الأشجار والأغصان والطين، وسرعان ما اكتشف إنشاء القوس، والقبة، والقبوة، مستخدماً في بنائها الحجارة المنحوتة التي تتماسك بالاحتكاك بين سطوحها المتماسة، كحلول ذكية للسقوف، ومع بزوغ فجر الصناعة والاكتشافات العلمية والاختراعات، عرف الإنسان صناعة الأسمنت والفولاذ، مما شكل قفزة نوعية في مواد الإنشاء وطرائقه، إذ استخدمها في إنشاء المساكن في أواخر القرن التاسع عشر، ما شكل علامة فارقة في تبدل طريقة الإنشاء التي كانت سائدة وانحسارها.
قبل اكتشاف الخرسانة، وهو خليط من الأسمنت والرمل والماء، كان إنشاء المسكن يعتمد على المصادر المحلية، ويحقق الشروط الصحية، ويوفر مستلزمات الحياة الاجتماعية والظروف البيئية، من عزل للحرارة والرطوبة والضجيج، ففي أساسات البناء تستخدم "ركّة" من الحجر، مع خلطة من الرمل والحجر المطحون والجير "الطين الكلسي"، وفي الجدران، استُخدِم الحجر المنحوت أو "الغشيم"، مع الطين الكلسي، أو من جذوع الأشجار على شكل شبكة "شاقولية" وأفقية، تتخللها مداميك من الطين المجفف أو المشوي، المُصنع من تربة غُضارية مخلوطة بالتِّبن على شكل قوالب. ويعتبر تركيب سيراميك
من ضمن افضل الاشياء فى البيوت
أما الأسقف فاستُخدِمت جذوع الأشجار مع ألواح خشبية تُغطَّى بالطينة الغُضارية، المخلوطة بالقش والألياف الخشبية، وقد تُستخدَم العقود والقبب الحجرية أو الخشبية، في إنشاء الهيكل الأساسي للسقف، وتغطى بالتراب مع الطينة الغضارية، وقد استُخدِم الكِلْس، والمُصنَّع من شَي الحجارة الكلسية، والمطفأ بالماء، والمخلوط بالرمل الطبيعي أو المطحون، مادةً رابطة لقِطَع الحجارة المستخدمة في البناء، كما استُخدِمت طبقة نهائية ملساء على الجدران أو السقوف أو السطوح