تطور المطبخ عبر العصور!
لو لم يكن المطبخ غير مكان لتحضير الطعام لاستحق الأمر زيارة معمّقة إليه. فكيف الحال، وهو أكثر من ذلك بكثير.
إنه النواة في كل بيت، حتى إن اسمه بات في بعض اللغات مرادفاً للعائلة.
وهو حكاية تطور بدأت فصولها قبل مئات آلاف السنين، وتسارعت بشكل مدهش في العصر الحديث، وتداخلت فيها احتياجات الإنسان الأساسية بالعلوم والاقتصاد والعمارة والمفاهيم الثقافية المختلفة.
وبفعل احتلاله حيّزاً راسخاً في الحياة اليومية لكل منا، كان لا بدّ له من أن يترك بصماته الواضحة على المعارف الإنسانية من علوم وفنون وآداب.
خدمته العلوم التي أسهمت في تطوره، فردّ الجميل بتحوّله إلى مصدر لعلوم جديدة ومحفّز على الابتكار والإبداع في مجالات تتجاوز إلى حدٍّ بعيد الاقتصار على تحضير الطعام.
في هذا الملف، يدخل بنا عبود عطية إلى المطبخ ليروي لنا من خلال سيرته وتاريخ مكوناته، الأبعاد الثقافية والاجتماعية الشاسعة التي ينطوي عليها.
قد لا يكون هناك ما يعبِّر بكلمة واحدة عن قيمة المطبخ أكثر من اسمه باليابانية الذي ظل رائجاً حتى بدايات القرن العشرين، وهو "كامادو"، الكلمة التي تعني حرفياً موقد الطبخ، ولكنها تعني أيضاً في الوقت نفسه "البيت" وحتى "العائلة"، لأنَّ المطبخ كان رمز البيت بأسره. حتى إنَّ تفكك أسرة ما بفعل الانفصال أو الهجرة، كان يُطلق عليه تعبير "تحطم الموقد".
يقال عنه إنه "مملكة المرأة"، لأن الأعراف الاجتماعية في معظم المجتمعات أناطت مسؤولية إعداد الطعام بربَّة المنزل. ولكن المطبخ يبقى الملكية المشتركة لكل أفراد الأسرة، والرابط الذي يبقي على لحمتها واجتماع أفرادها ثلاث مرّات في اليوم.
انطلاقاً من الموقد
الموقد هو نواة المطبخ اليوم، كما كان منطلق نشأته ومحور تطوره، ظهر عندما اكتشف الإنسان النار، وأن الطعام المطبوخ على النار هو ألذّ طعماً، ويحتمل أن يكون ذلك قد حصل قبل أكثر من مليون سنة حسبما استخلص بعض العلماء من اكتشاف بقايا موقد في كهف "وندرويرك" في جنوب إفريقيا. ولكن إجماع العلماء يقتصر على التسليم بأن الإنسان عرف طهي الطعام على النار قبل 400.000 سنة، وتأكد ذلك بفعل اكتشاف كثير من الحفر المحتوية على بقايا الحطب المحروق المختلطة بعظام الحيوانات في أماكن عديدة من الشرق الأوسط وأوروبا.
كان الموقد الأول عبارة عن حفرة في الأرض، ومن ثم تطوَّر ليصبح فوق الأرض. ولتلافي تطاير الشرر في الهواء، تعلَّم الإنسان إحاطة النار ببعض الحجارة، ومن ثم بناء سور صغير من الطين حولها. وهذا الموقد البسيط المهندس جيداً الذي ظهر قبل أكثر من عشرة آلاف سنة، لا يزال حتى اليوم يختزل بمفرده المطبخ بأسره في أرياف بعض دول شرق آسيا وإفريقيا، حيث يقتصر المطبخ على هذا الموقد المُقام خارجاً قرب البيت. أما في أماكن أخرى، فقد تطوَّر ببطء أولاً، وبسرعة كبيرة خلال القرنين الماضيين.
المطبخ المنزلي والمطبخ العام
في الحضارة اليونانية القديمة، كانت البيوت تُبنى وفق مخطط مربع تتوسطه فسحة سماوية مخصصة للنساء. وكانت مواقد الطبخ تُقام في هذه الفسحة. أما في الحضارة الرومانية، فإن امتلاك مطبخ خاص في المنزل كان حكراً على الأثرياء، وكانت عامة الناس تطبخ مأكولاتها في مطابخ عامة متفرقة في أحياء المدينة.
وعلى الرغم من قلة ما وصلنا عن وصف المطبخ في الحضارة الإسلامية، فإن الأدب الشعبي يشير بوضوح إلى أن بيوت العامة في العصر الوسيط في كل من دمشق والقاهرة كانت تخلو من المطابخ وتعتمد على المطابخ العامة، إذ كان الناس يحتفظون في بيوتهم بالمؤن التي يحتاجونها، ويرسلون يومياً مستلزمات الطبخة من حبوب ولحوم وخضار إلى مطبخ عام، حيث تطبخ ويعاد إرسالها إلى بيوتهم في الوقت المحدَّد. غير أن الحال كان مختلفاً في قصور الأغنياء والحكّام.
فقد وصلنا وصف المأدبة التي أقامها السلطان قانصوه الغوري لإحدى البعثات الدبلوماسية من جمهورية البندقية، وعلى الرغم من أنه لم يصلنا شيء عن وصف مطبخ قصره، يمكننا أن نتخيل ضخامته من وصف الأطباق التي تتحدّث عن عجول محشوة بالخراف المحشوة بدورها بالدجاج... وعندما تكون الأطباق تقاس بالأمتار، فمن الطبيعي أن تقاس المطابخ بعشراتها.
وخلال العصور الوسطى نفسه في أوروبا، عندما كانت بيوت العامة تتألَّف من غرفة طويلة، كان المطبخ يقع في منتصف المسافة ما بين باب المدخل والمدفأة التي تستخدم نارها للطبخ والتدفئة والإنارة. أما في قصور النبلاء، فقد كان في معظمها غرفة خاصة لأن تكون مطبخاً. ولكن مع بدايات عصر النهضة صار هؤلاء يبنون مطابخ منفصلة عن مبنى القصر الرئيس لحمايته من الدخان وروائح الأطعمة التي قد تعكر عليهم استقبالاتهم الرسمية.
وفي أواخر العصر الوسيط تم ابتكار مواقد التدفئة المبنية بالحجارة بمدخنة تشفط الدخان إلى ما فوق السطح، ففقد موقد المطبخ وظيفتـه في التدفئة، فانفصلت غرفــة الجلوس عن المطبخ، متحرَّرة من الدخان.
والتطور الثاني الذي شهده عصر النهضة الأوروبية، كان في ابتكار مزيد من مستلزمات المطبخ التي لم تعد تقتصر على الموقد الحجري وبعض القدور، بل تظهر بعض الرسومات العائدة إلى تلك الفترة، وجود مواقد معدنية تعمل على الحطب أو الفحم، ويُنفخ فيها الهواء ميكانيكياً، ومزودة بذراع ميكانيكة لتقليب المشاوي، يُنسب اختراعه إلى ليوناردو دا فنشي الذى يقتبس منه نجار الكويت
الطريق إلى المطبخ الحديث
خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر الميلاديين، تركَّز تطوير المطابخ على تطوير المواقد والأفران وظهرت طرز عديدة منها، غير أن التطور الأكبر فيها تمثل في عام 1825، بتسجيل براءة اختراع أول موقد طبخ يعمل على الغاز في الولايات المتحدة، وبدأ تسويقه تجارياً بدءاً من عام 1835، وبيع منه 90 ألف وحدة خلال السنوات الثمان التالية. وعلى الرغم من أن مدناً مثل باريس ولندن وبرلين كانت قد بدأت بمدّ شبكات الغاز لإنارة الشوارع منذ مطلع عشرينيات ذلك القرن، فإن انتشار مواقد الغاز في البيوت لم يحصل قبل أواخره.
ولأنَّ مواقد الغاز لا تتسبب بانبعاث أي دخان، فقد حلّت بشكل كامل محل المواقد العاملة على الحطب أو الفحم في كل مدن العالم. ولأنَّ الطلب عليها تجاوز المدن التي تمتلك شبكات لتوزيع الغاز، ظهرت قارورة الغاز كحل يحرر من الاعتماد على الحطب الذي لم يعد مستخدماً في مواقد الطبخ إلا في بعض المجتمعات الفقيرة في آسيا وإفريقيا، حيث يتوفر الحطب بكثرة تبقيه بديلاً أفضل اقتصادياً من الغاز المستورد.
وشهدت السنوات الأخيرة من القرن التاسع عشر الميلادي تطورات بالغة الأهمية انعكست كلها على تطور المطبخ. فكل المدن الأوروبية راحت آنذاك تمد شبكات لإيصال المياه إلى البيوت، وشبكات لصرف المياه المستعملة والصرف الصحي، وما إن أطل القرن العشرين حتى كان التحكم بالكهرباء كافياً لتوزيعها تجارياً لتحل جزئياً محل الغاز في استخدامات عديدة. ولتشرّع الأبواب واسعة جداً أمام سلسلة كبيرة من المبتكرات الصناعية التي أصبحت من مستلزمات أي مطبخ حديث في العالم.
غير أنه كان للثورة الصناعية وجه آخر غير برّاق تجلَّى بوضوح في عالم المطابخ. فبسبب زحف الأرياف إلى المدن للعمل في المصانع الجديدة والمتكاثرة، وبسبب ضعف الأجور المدفوعة للعمال، ازدحمت المباني السكنية في معظم المدن الحديثة بما يفوق طاقتها على الاستيعاب. فكان من الطبيعي في أية مدينة أوروبية أن يتشارك ستة عمال إيجار غرفة واحدة، لا يبقى فيها لمطبخهم أكثر من زاوية لا تتجاوز مساحتها مساحة الموقد. وحتى في بيوت الطبقة الوسطى والأعلى قليلاً، التي أصبحت عبارة عن شقق سكنية متفاوتة الأحجام وفيها مطابخ مستقلة عن بقية الغرف، تحوَّلت المطابخ إلى غرف منامة للخدم. وحتى فترة الحرب العالمية الثانية، كانت جهود المصممين والمبتكرين على تطوير عالم المطبخ، حكراً على بعض الأفراد، حيث لا يوجد مناخ اجتماعي واقتصــادي يساعدها على الانتشــار بشكل واسع وشامل. كما حصـل في العقود اللاحقـة وأفضى إلى ظهور المطبـخ المنزلي الحديث، المطبخ الذي نعرفه جميعاً، مع اختلافات محدودة بين بيت وآخر، وأيضاً المطبخ الصناعي المجهّز لإعداد الطعام لمئات الأشخاص وحتى الآلاف.
فمطبخ البيت المتوسط هو اليوم غرفة ضمن المنزل، تحتوي على موقد وفرن يعملان على الغاز أو الكهرباء (حسب الجدوى الاقتصادية) وثلاجة لحفظ الطعام، ومغسلة لأدوات الطبخ والمائدة، وطاولة لتحضير المواد اللازمة للطبخ، وخزائن مبنية في جدران المطبخ لتوضيب أدوات الطبخ والقدور ومواد التنظيف. ويمكن للائحة موجودات المطبخ أن تتجاوز هذه الأساسيات لتضم أيضاً جهاز ميكروويف وجلاية كهربائية، ومطاحن ومعاصر كهربائية، وغير ذلك من الأدوات والمبتكرات التي يظهر الجديد منها في الأسواق كل يوم وتسهّل أعمال المطبخ على ربة المنزل، أو تزعم ذلك.
أما المطابخ الكبيرة المعدّة لتلبية احتياجات أعداد كبيرة من الناس، كما الحال في الفنادق والمطاعم والثكنات العسكرية، فتختلف تماماً عن المطابخ المنزلية، إذ يمكن للثلاجة فيها أن تكون غرفة أو عدة غرف مبردة، كما أن المواقد تتعدَّد وتنتظم في صفوف طويلة، وتصبح قدور الطهي أشبه بالبراميل، يمكن أن تصل سعة بعضها إلى 750 ليتراً.
ثمرة نظرة ثقافية جديدة
في كثير من البيوت والشقق السكنية المصممة حديثاً، ينفتح المطبخ على غرفة الجلوس. فلا جدار ولا باب مغلقاً بين الجهتين بل طاولة تستخدم لتناول الطعام، كما يمكن استخدامها لأغراض أخرى. وهذا ما يعرف "بالمطبـخ المفتـوح"، الذي يسميــه البعض في بلادنا "المطبخ الأمريكي".
وبالفعل، فإن هذا الطراز من المطابخ هو أمريكي المنشأ، وهو ثمرة تلازم تطور كبير في العمارة والتصميم الداخلي وتقنيات التهوئة، ولكن قبل كل شيء ثمرة تغير في النظرة الثقافية إلى الطبخ.
ففي ثلاثينيات القرن الماضي، بنى المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت بيتين كان المطبخ فيهما مفتوحاً على غرفة الجلوس، وتطلَّب ذلك منه رفع سقف المطبخ حتى سطح الدور الثاني من المنزل، لضرورات التهوية وإضاءتهما طبيعياً عبر السقف. ولكن هذا الحل المعماري لم يكن في متناول الجميع، بل تطلَّب الأمر تطوير تقنيات التهوية بما فيه الكفاية في ثمانينيات القرن الماضي لينتشر تصميم المطابخ المفتوحة على نطاق واسع من أمريكا وأوروبا وصولاً إلى بلادنا.
ولكن إضافة إلى الحلول التقنية التي جعلت المطبخ المفتوح ممكناً، فإن هذا المطبخ هو في العمق ثمرة تغير في النظرة الثقافية إلى الطبخ، إذ بات يُنظر إليه كفن وكنشاط إبداعي واجتماعي، وليس مجرد وظيفة أو خدمة. كما أن ربات المنازل رحبن به لأنه يسهل عليهن نقل الطعام من المطبخ إلى المائدة المجاورة للموقد، بدلاً من أن تكون في غرفة مجاورة.
وبعد البيوت انتشرت المطابخ المفتوحة في كثير من المطاعم. صحيح أن بعض المطاعم فتح مطبخه على قاعة تناول الطعام لطمأنة الزبائن إلى مستويات النظافة وحسن الإعداد، ولكن في كثير منها كان الدافع فعلاً ثقافياً، للتباهي بالطرق الوطنية في فن الطبخ، كما هو الحال في كثير من المطاعم اليابانية، حيث يتوسط المطبخ القاعة، ويتحلق الزبائن حول المواقد ومناضد تحضير الطعام فيها.
وقد أدّت فلسفة المطابخ المفتوحة هذه إلى نشاط كبير في صفوف المصممين الذين راحوا يرتقون بتصاميم المطابخ ومستلزماتها إلى مستوى جمالي يجعلها لائقة بالظهور أمام أعين الزوار في غرفة الجلوس، فكان المطبخ المفتوح بذلك وراء تطور صناعة جديدة لم تكن موجودة قبل نصف قرن.